سورة الحج - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


{وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)} [الحج: 22/ 34- 35].
المعنى: جعلنا لأهل كل دين سابق منسكا، أي موضع نسك وعبادة، يذبحون فيه الأنعام، تقربا إلى الله تعالى، وذلك ليس خاصا بأمة محمد صلّى اللّه عليه وسلّم، وإنما هو في كل الملل.
وقد شرع الله وحدد أماكن الذبح: ذبح الأنعام، لكي يذكروا اسم الله حين ذبحها، أي حين الشروع في الذبح أمرناهم بذكر الله، وأن يكون الذبح له، لأنه هو الرزاق، ويشكروا الله على نعمه التي أنعم بها عليهم، وتلك هي السنة في إراقة دم الذبائح.
وينبغي أن يتجه الذابح إلى الله الذي سخر للإنسان هذه المواشي، والله المقصود هو المعبود الواحد، وإن تنوعت الشرائع، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهذه هي العلة في تخصيص الذبح باسم الله، وإفراده بالذكر، لأن تفرد الله بالألوهية يقتضي ألا يذكر على الذبائح غير اسمه تعالى. ومتى كان الإله واحدا، فله أسلموا، أي استسلموا وانقادوا لأمره وجميع أحكامه، وبشر أيها النبي بشارة على الإطلاق المخبتين، أي المتواضعين الخاشعين من المؤمنين برضوان الله، إذا اتصفوا بالصفات الأربع الآتية:
أولا- {الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إن الخوف والخشوع يهيمن على قلوبهم ومشاعرهم عند ذكر الله، لما يتصف به من العظمة والجلال.
ثانيا- {وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ} أي إن المخبتين الخاشعين هم الذين يصبرون على أحداث الدنيا ونوازلها، وعلى ما قد يجدونه من المشاق في طاعة الله.
ثالثا- {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي هم الذين يؤدون الصلاة في أوقاتها تامة الأركان والشروط، بخشوع قلب لله تعالى، وإخلاص وشعور بالغبطة في أداء الصلوات المفروضة وغيرها.
رابعا- {وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ} أي إنهم الذين ينفقون من بعض ما آتاهم الله من طيب الرزق، على الأهل والقرابة وأهل الحاجة، مع إحسان في القول، ومحافظة على حدود الله وشرائعه.
هذه الصفات الأربع للمخبتين الخاشعين مثال شريف من خلق المؤمن الهيّن الليّن، إنهم المطمئنون بأمر الله تعالى، المتصفون بالخوف والوجل عند ذكر الله سبحانه، لقوة يقينهم ومراعاتهم لربهم، وكأنهم بين يديه. ولهم صفات عظيمة دينية وخلقية واجتماعية، فهم الذين يقيمون الصلاة، ويداومون على إقامتها، ويصبرون على المحن والضراء، ويمنحون غيرهم من الفقراء والمحتاجين بعض أموالهم التي رزقهم الله بها. إن هذه الصفات والمعاني هي صفات أهل الإيمان بحق، وقد ترددت في آي القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2)} [الأنفال: 8/ 2]. ومثل قوله سبحانه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر: 39/ 23].
ما يطلب عند ذبح الإبل:
إن تسخير الأنعام من إبل وبقر وغنم للإنسان وتمكنه من الانتفاع بها من أعظم النعم على البشر، لذا يطلب تعظيم الله حين ذبحها والتسمية عليها، والأكل منها، سواء الذابح والمسكين والمحتاج، وإن الله لا ينتفع من أعمال العباد بشيء، ولكن النفع يعود على الإنسان ذاته، فما يقدّمه من قرابين وهدايا للحرم المكي أو أضاحي أو نذور، فإنما يقصد به تربية الإنسان، وغرس جذور التقوى في نفسه، وأداء واجبه وشكر نعمة الله عليه، وتكبيره على هداية الله إياه، وإحسانه القول والعمل، قال الله تعالى مبينا ما يطلب حال ذبح الإبل:


{وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)} [الحج: 22/ 36- 37].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جريح قال: كان أهل الجاهلية يضمخون البيت الحرام بلحوم الإبل ودمائها، فقال أصحاب النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: فنحن أحق أن نضمخ، فأنزل الله تعالى: {لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها} الآية.
يمتن الله تعالى على عباده أن يسّر لهم الإبل يتقربون بها بالإهداء إلى البيت الحرام، فيذكر سبحانه أننا جعلنا لكم الإبل ومثلها البقر من علائم دين الله وأدلة طاعته، والبدن جمع بدنة: وهي ما أشعر من ناقة أو بقرة، ففي ذبحها في الحرم ثواب كبير في الآخرة، ونفع عظيم بلحومها للفقراء في الدنيا وبالركوب عليها، وأخذ لبنها.
فقوله: {لَكُمْ فِيها خَيْرٌ} الصواب عمومه في خير الدنيا والآخرة.
فلتذكروا اسم الله عليها، حال نحرها، وكونها صافات أطرافها، قائمات معقولة، بأن تقولوا: بسم الله، والله أكبر، اللهم منك وإليك.
فإذا وجبت جنوبها، أي سقطت على الأرض مقتولة ميتة، فيباح لكم الأكل منها، وعليكم الإطعام منها للفقراء، سواء المتعفف عن السؤال وهو القانع، والمتعرض للسؤال بالسؤال أو السكوت وهو المعتر. من أجل هذا المذكور من الخير في ذبح الأنعام والأكل منها وإطعام الفقراء، ذللناها لكم مع عظمتها وقوتها، وجعلناها منقادة لكم، خاضعة لرغباتكم ومشيئتكم بالركوب والحلب والذبح، لكي تشكروا الله على نعمه، بالتقرب إليه، والإخلاص في العمل. فقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} تعليل لما قبله، أي من أجل توجيه الشكر والحمد منكم لربكم على نعمه وأفضاله، فهي بمعنى «كي».
والغاية من ذبح الأنعام ليس إيصال لحومها ودمائها إلى الله، فلله الدنيا والآخرة، والله غني عن العالمين، وإنما الغاية تحقيق التقوى والإخلاص، وأداء الأعمال الصالحة، وهذا الغرض التهذيبي يعود نفعه في مدى الحياة على الإنسان ذاته، فبصلاحه يصلح له قلبه وصحته، وجسده وسائر حواسه.
ثم كرر الله تعالى التذكير بالنعمة وتذليل الأنعام للناس، لأن في إعادة التذكير حثا وحضا على القيام بواجب شكر المنعم، والثناء على الله بما هو أهله، فمن أجل تلك الغاية المذكورة من ذبح الأنعام وهي غرس التقوى في القلوب ذلّل الله البدن (الإبل) ليعظم الناس الله، ويشكروه على ما أرشدهم إليه، من الدين الحق والشرع القويم، وكل ما يحبه ويرضاه، والإبعاد عما يكره، واجتناب ما يضر، ثم وعد الله تعالى المهديين الراشدين بالبشارة الكريمة بقوله: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} أي وبشر أيها النبي بالجنة والرضوان أهل الإحسان في العمل، القائمين بحدود الله، المتبعين ما شرع الله، الطائعين أوامر الله، المصدقين رسول الله فيما بلّغهم، وحذرهم وأنذرهم، وكل ما جاءهم به من عند الله عز وجل.
روي أن قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ} والآية التي قبلها: {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34)} نزلت في الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله تعالى عنهم، لكن ظاهر اللفظة يقتضي العموم في كل محسن، متواضع خاشع لله رب العالمين.
الإذن بالقتال ضد الأعداء:
إن المنهج الرباني في علاج الأمور الشاذة والانحرافات الخطيرة قائم على غاية الحكمة والاعتدال، والتأني والإمهال، فلم يعجل الله البدء بقتال المشركين أنصار الوثنية والضلال، وإنما صبر عليهم مدى خمسة عشر عاما، ليكون للعقل والفكر وإعمال الرأي والقناعة الدور المهم في القضايا، ولتبدأ الأمة الإسلامية قوية ناشطة، معذورة في كل ما تؤديه من واجبات، لأن لغة السيف وقعقعة السلاح إنما تكون حين استفحال العدوان، واليأس من الصلاح والاستقامة، وهذا المنهج هو الذي نجده في ساحة التشريع الإلهي بالإذن بمشروعية القتال، بعد طول الصبر والمصابرة، والدفع بالحكمة والحسنى، فقال الله تعالى:


{إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)} [الحج: 22/ 38- 41].
نزلت آية {إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ} بسبب المؤمنين لما كثروا بمكة، وآذاهم الكفار، وهاجر من هاجر إلى أرض الحبشة، وأراد بعض مؤمني مكة أن يقتل من أمكنه من الكفار، ويغتال ويغدر ويحتال، فنزلت هذه الآية.
ونزلت آية: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} كما روى أحمد والترمذي وغيرهما عن ابن عباس قال: خرج النبي صلّى اللّه عليه وسلّم من مكة، فقال أبو بكر: أخرجوا نبيهم، إن لله وإنا إليه راجعون! ليهلكن، فأنزل الله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39)}.
والمعنى: إن الله يدفع الشر عن عباده المصدقين بوجوده ووحدانيته، وبما أنزل على رسوله الكريم، الذين توكلوا عليه حق التوكل، وإن الله سبحانه يسخط على خائن العهد والأمانة، وجاحد النعمة والفضل. وكلمة «يدافع» في مواجهة من يتعرض للمؤمنين بالأذى، فيكون فعل الله مدافعة عنهم. وقيل: إن «دفاع»: مصدر دفع، والحساب: مصدر حسب.
وقد أبيح أو رخص للمؤمنين المعتدى عليهم بممارسة القتال، ضد ظلم المشركين إياهم، بإخراجهم من ديارهم وأموالهم، واستمرار إيذائهم، واضطهادهم، ومبادرتهم بكل أنواع التعذيب والمضايقة، وإن الله وحده قادر على نصر أهل الإيمان، إذا التزموا سبيل الطاعة.
إن هؤلاء المؤمنين بالله ورسوله المعتدى عليهم: هم الذين أخرجهم المشركون من مكة إلى المدينة بغير حق، وهم محمد صلّى اللّه عليه وسلّم وأصحابه، ولم يكن منهم إساءة إلى قومهم، ولا ذنب إلا أنهم عبدوا الله وحده لا شريك له، فيكون أول أسباب مشروعية الجهاد أو القتال في الإسلام: هو الطرد من الأوطان بغير حق، ثم الدفاع عن حرية العبادة في الأرض، وحماية المقدسات.
ثم ذكر الله تعالى السّنة الثابتة للإله: وهي سنة التدافع، من أجل الحفاظ على مبدأ التوازن بين البشر، فلولا أنه تعالى يدفع بقوم عن قوم، ويكف شرور جماعة بآخرين، ولولا تشريع القتال دفاعا عن الوجود المؤمن والحرمات الإلهية، لهدّمت مواطن العبادة، سواء أكانت معابد لليهود أم النصارى أم للمسلمين.
ثم أكد الله تعالى صنعه أنه ليؤيدن بنصره الذين يقاتلون في سبيل إعلاء كلمة التوحيد، ورفع لواء الدين الحق، إن الله سبحانه هو القوي القادر على نصر أهل طاعته، المجاهدين في سبيله، العزيز المنيع الذي لا يقهر، ولا يغالب، فمن غالبة غلبه، ومن عاداه خذله وقهره.
والجديرون بالنصر: هم الذين إن مكنّهم الله في الأرض، وحقق لهم السلطة على الناس، ومنحهم النفوذ والهيمنة، قاموا بأمور أربعة: وهي إقامة الصلاة المفروضة على الوجه الأكمل، وإيتاء الزكاة الواجبة، والأمر بالمعروف (وهو فعل كل ما أمر به الله شرعا، وحسن عقلا) والنهي عن المنكر (وهو اجتناب كل ما حظر شرعا، وقبح عقلا) فدعوا إلى توحيد الله وإطاعته، ونهوا عن الشرك وقاوموا أهله، والمرجع في الأمور كلها إلى حكم الله العلي القدير، وإلى تقديره في منح الثواب، وتنفيذ العقاب على ما عملوا، وفي هذا تأكيد لوعد الله تعالى بنصر أوليائه، وإعلاء كلمته، وخذلان أعدائه.
الاتعاظ بإهلاك الأقوام الغابرين:
إن معرفة أحداث التاريخ وتحليل الوقائع والأسباب له فائدة كبري في علاج أمراض الشعوب والأمم، فالعقلاء: هم الذين يتأملون بما حدث، ويفكّرون بما وقع، ويدرسون الأسباب والنتائج دراسة متأنية قائمة على البحث والتمحيص، للحذر مما وقع، ولرسم سياسة المستقبل، في ضوء مجريات الأمور. وهذا ما جعل القرآن الكريم يعنى بقصص الأقدمين، ليعرف من يأتي بعدهم سبب الداء والدواء، وطريق الحذر واليقظة، ومن هذه المذكّرات للمشركين المكيين وأمثالهم: ما حدّثنا به القرآن من أحوال الغابرين، فقال الله تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8